فن

«لست أنا»: أن تشاهد فيلم كاراكس مع إيليا سليمان وشريدر

كيف شاهدت فيلم كاراكس الجديد «لست أنا» C'est Pas Moi؟ وكيف تحولت مجموعة من الصدف لجعل هذه التجربة أفضل تجارب المشاهدة في كان 77؟

future بوستر فيلم «لست أنا»

حينما تم الإعلان عن قائمة الأفلام المشاركة في مهرجان كان في دورته رقم 77، تفائل عديدون بوجود فيلم جديد للمخرج الفرنسي ليوس كاراكس، الرجل الذي فاز في 2021 بجائزة أفضل مخرج في كان عن فيلمه «أنيتا» Annette. 

تراجع الحماس إلى حد ما حينما تم الإعلان أن مدة الفيلم الجديد 40 دقيقة، فيلم قصير أو متوسط الطول، ويتخذ أسلوبا تجريبيا ذاتيا في كولاج سمعي وبصري، وليس فيلم روائي طويل اعتيادي.

على عكس ذلك، ازداد حماسي حينما علمت بتفاصيل الفيلم، فما أجمل من شريط سينمائي قصير من كاراكس لإعادة شحن حماسنا وسط أفلام طويلة نهرول من قاعة إلى قاعة أخرى لحضورها.

أرى بشكل شخصي أنه لا داعي لأن تزيد مدة أي فيلم عن ساعة وأربعين دقيقة، يستثني من ذلك ربما فيلم كل 10 سنوات له الحق في الوصول لثلاث ساعات في نسخته النهائية، لكن أن نرى أفلام سطحية تمتد لثلاث ساعات فهو اختطاف لنا كجمهور سينمائي لمشاهدة ما لا يثمن ولا يغني من جوع.

كيف شاهدت فيلم كاراكس الجديد «لست أنا» C'est Pas Moi إذن؟ وكيف تحولت مجموعة من الصدف لجعل هذه التجربة أفضل تجارب المشاهدة في كان 77؟ 

كاراكس: ناقد سينمائي وسينمائي ناقد

بالعودة إلى كاراكس المخرج الذي بدأ حياته كناقد سينمائي، كتب نقداً لعشرات الأفلام، ثم أخرج فيلما قصيرا في بداية الثمانينات، تبعه بفيلمه الروائي الطويل الأول «ولد يلتقي فتاة» Boy Meets Girl في كان 1984، منذ البداية حقق كاراكس نجاحاً ملحوظاً خصوصا لدي الشباب، بأسلوبه الشاعري الذي يصور بشكل شبه دائم حب معذب.

الآن وبعد أربعين عاماً من مشاركته الأولى في كان، وبعد تحقيقه لجائزة أفضل مخرج منذ ثلاث سنوات، يعود كاراكس إلى كان بشكل ربما أعاده لوظيفته الأولى، النقد السينمائي، ولكن بدلا من النقد بشكل كتابي، يصنع كاراكس هنا كولاج بصري وصوتي سينمائي لنقد عالمه السينمائي، وسينما عالم اليوم، وعالم اليوم ذاته. 

يصبح التأثر بالمرحلة السينمائية الأخيرة للمخرج الفرنسي الكبير جان لوك جودار واضحاً للغاية في فيلم كاراكس، وخصوصا بفيلم جودار المعنون «كتاب الصور» The Image Book الذي فاز بسعفة شرفية في كان 2018.

كما صنع جودار كولاج بصري صوتي مع مقاطع من التعليق الصوتي التي ألقاها بنفسه، يصنع كاراكس هنا أيضا كولاج بصري صوتي مع تعليق صوتي مستمر طوال الأربعين دقيقة بصوته الهامس. 

ما يميز معالجة كاراكس هنا رغم ذلك أنها أقل تجريدية وأكثر ترابطا، يصبح هكذا تأويلها أسهل، لكنها رغم ذلك تظل ثورية وجريئة، ذاتية جدا، لكن يمكنها أيضا أن تمسسك كمشاهد بشكل شخصي. 

في جزء من هذا الشريط السينمائي يضع كاراكس صورا ولقطات أرشيفية لخطابات الزعيم النازي أدولف هتلر مئات الآلاف يصفقون ويهتفون أمامه، الاستبداد يمكن أن يكون رائجا ومحبوبا للغاية، يمزج عقب ذلك كاراكس صورة هتلر بصور لمستبدين حاليين، تظهر صورة بوتين" ثم ترامب، وكثيرون ممن يعتبرهم المعسكر الغربي «مستبدين» بشكل آمن للغاية، لكن حينما تظهر صورة نيتنياهو بعد جزء من الثانية من ظهور صورة هتلر، ليبدو وكأن شارب هتلر الأيقوني مرتسما على وجه نتنياهو، يصبح الأمر أكثر صدقا ومشاغبة، حينها يصبح نقد كاراكس السياسي جزء من ألعابه السينمائية.

نقد كاراكس ليس اعتياديا، يسائل الرجل سينماه ونفسه، من خلال صور ولقطات يسائل علاقته بالمخرج البولندي رومان بولانسكي الرجل الذي فقد أمه في معسكر أوشفيتز النازي، ثم فقد زوجته بجريمة قتل بشعة، صنع سينما مذهلة، ثم اغتصب فتاة قاصرة، كيف نرى بولانسكي وحياته وفنه؟!

صدف سعيدة ولحظات قشعريرة

حينما دخلت قاعة سينما بازين في قصر المهرجان في كان لمشاهدة فيلم كاراكس لم أجد مكان في الصفوف الخلفية كما أحب عادة، مشيت لمنتصف القاعة الأمامي ورأيت كرسي فارغ في منتصف أحد الصفوف، سألت الرجل الذي يجلس على الكرسي الأول أن يدعني أمر، رجل ذو شعر أبيض، قام وابتسم، حينما مررت أمامه اكتشف أنني أعرفه، إنه المخرج الفلسطيني المحبب لدي إيليا سليمان، الرجل الذي يصنع سينما فلسطينية تسخر من الاحتلال واليأس، وجهت كلامي له أثناء مروري وقلت: «هل السيد إيليا سليمان حقا هنا؟» فرد بضحكة قائلا: «يبدو الأمر كذلك».

جلس إيليا سليمان بعدها وتحدث لأحد مرافقيه قائلا، أرأيت، يبدو أنه لازال هناك من يعرفني هنا، ثم ضحكوا سويا، حينما جلست نظرت له مرة أخرى واعتذرت أننا جعلته يقف من أجل أن أصل للكرسي، فرد: «لا عليك، إنه تمرين جيد» ثم ابتسم. إيليا سليمان قد قدم فيلم «إن شئت كما في السماء» البديع للغاية في المسابقة الرسمية في كان عام 2019 وحصل من خلاله عن إشادة خاصة من لجنة تحكيم المهرجان.

حينما لمسني فيلم ليوس كاراكس في أكثر من لحظة، ثم انتهي بأغنية لفيروز تتحدث عن من يعيشون تحت القصف، شعرت بالقشعريرة للمرة الوحيدة في صالات سينما كان هذا العام، هو أمر نادر أن تتفق حالتك المزاجية ورغبتك السينمائية وأفكارك مع نفس الموجة التي ضبط مخرج الفيلم شريطه السينمائي عليها، حينما يحدث هذا، أعيش بهجة ونشوة لا تتكرر كثيراً، الأمر هنا كان يستحق التسجيل لأنها حدثت وأنا أجلس جنبا إلى جنب مع صانع سينما مفضل لدي، كان سبب في هذا الشعور السينمائي من قبل، وهو إيليا سليمان. 

لم تكن هذه المرة الأولى التي يستخدم فيها كاراكس أغنية لفيروز في أفلامه، صنعها من قبل في مشهد الرقص على الجسر الأيقوني في فيلمه «عشاق على الجسر» Lovers on the Bridge عام 1991، حينها كانت «جايبلي سلام». كانت لحظة سينمائية خالدة، وهنا في فيلم قصير يسائل السينما والسياسة والعالم، فيلم يحدث في نفس لحظة حدوث إبادة عرقية ضحيتها شعب يتم قصفه دون توقف منذ شهور، تصبح هذه اللحظة أيضا خالدة بالنسبة لي. 

امتنان رغم الفضيحة

حينما التفت عقب نهاية الفيلم وجدت أن المخرج والكاتب الأمريكي الكبير بول شريدر جالس خلفي مباشرة، يشاهد فيلم كاراكس أيضا، الرجل الذي كتب اثنين من أهم فيلم سكورسيزي ودينيرو ونقصد هنا «سائق التاكسي» Taxi Driver و«الثور الهائج» Raging Bull، حضر إلى كان بفيلمه الأحدث «أوه كندا» Oh Canada.

حينما رأيته تذكرت فضيحة حصلت قبل يومين، كنت قد طلبت من منسقة الصحافة الخاصة بفيلمه عمل مقابلة خاصة معه، ردت بطلب 1800 يورو مني، لدي إيميل بهذا، تطلب شركات العلاقات العامة أموال ورسوم في بعض الأحيان، لكن ليس بهذا القدر الضخم، الفضيحة أن هناك صحفي سويدي من معارفي قد استشاط غضبا حينما أخبرته بذلك، لأنه قام بمقابلة شخصية مع بول شريدر في نفس اليوم الذي كنت من المفترض أن التقيه فيه، ولم يدفع شيئاً ولم يطلب أحد منه دفع شئ، لماذا طلبت منسقته مني هذا المبلغ إذن! 

رغم هذا وما قد يعنيه فقد أعجبت بتفاصيل في فيلم Oh Canada لشريدر، لحظات تشوش الذاكرة قبل الموت، والتعبير عنها سينمائيا، حتى ولو كنت غفوت لبضع لحظات خلال الفيلم صاحب الايقاع الهادئ تماما، كنت في مزاج سينمائي جيد بعد فيلم "كاراكس"، رأيت شريدر عقب العرض مع سيدة -غالبا هي منسقته الصحفية- ابتسمت له وأخبرته أنني أحببت فيلمه، ابتسم الرجل وشكرني بحفاوة، لم أرد إخباره بما فعلته منسقته ثم تركته ورحلت عن قاعة السينما وأنا في غاية السعادة.

# مهرجان كان # صناع سينما # مخرجون

مع حسين فهمي: لماذا لم تعد السينما العربية تصل إلي كان
حوار خاص مع ندى رياض وأيمن الأمير: حكايات البرشا وبناتها الشجعان
فيلم «أنواع اللطف»: لانثيموس كنوع سينمائي

فن